الخبــز
الجزائر، مصر، الأردن، لبنان، المغرب، سوريا، تونس
في شهر فبراير 2018، اجتاح متظاهرون شوارع العاصمة الأردنية، وقد حمل بعضهم عاليا رغيف خبز من تلك الأرغفة التقليدية المصنوعة من الدقيق الأبيض، والتي تُستهلك عامة في المنطقة. وكتب على كل رغيف “فساد = جوع”. لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي يثور فيها الشارع الأردني محتجا ضد ارتفاع الأسعار وسياسات التعديل الهيكلي التي يفرضها صندوق النقد الدولي بانتظام. ” ثورات الخبز” تتالى وتبدو متشابهة، كيف إذن لا يلوح الناس بذلك الرمز أمام سلطة تُجوّع مواطنيها؟
علينا ألا نُخدع بالبساطة الظاهرية للخبز كرمز مميز للثورة، وأن نعي أن أولئك الذين يحملونه عاليا لا يدفعهم بالضرورة الجوع، لكنهم يشيرون في الحقيقة إلى حد أدنى مشترك وضروري للعيش، يُعتبر الخبز كنايته. فالخبز يحضر كسبب رئيسي للاحتجاج عندما يحدث نزاع حول الدقيق المدعم من قبل الدولة. وقد أصبح هذا النوع من الانتفاضات يتكرر منذ تم وضع برامج تعديل هيكلي تُجبِر البلدان على التخلي عن دعم المواد الأساسية.
كما أن الخبز كان حاضرا ككلمة تعبئة، أدرجت في أكثر الشعارات تداولا خلال سنة 2011: “خبز، حرية، كرامة” أو “خبز، حرية، عدالة اجتماعية”. في تونس حلت الأرض في بعض الأحيان محل الخبز فكان شعار “خبز حرية كرامة وطنية”، و كلاهما يرمز لتلك الأرضية ولأدنى الأسس، التي لا تستقيم بدونها أي بلورة سياسية كانت أم اقتصادية أو أخلاقية لأي نمط عيش.
والخبز يجسد فكرة الحد الأدنى لظروف الحياة اليومية، الذي إذا تم تَخطّيه يصبح هناك اعتداء على كرامة الناس. وهو يمثل بالتالي “الحياة العادية” تلك التي تحق المطالبة بها. لأن الخبز يشغل أحيانا عديدة في اليوم: نشتري الخبز، وننتظر الخبز في الطابور، ونحضره، و نرجع للبيت بالخبز.
فلما يتم التلويح برغيف الخبز للاحتجاج، أو يكون ذلك الرغيف في قلب المحادثات كمقياس للرفاهية، تصبح الحياة اليومية برمتها قضية سياسية: الماء والكهرباء والغاز، والدقيق، أو حتى وسائل الاتصال (التي كانت سببا في اندلاع الثورة اللبنانية سنة 2019)، تمثل جميعها مشكلة بين الحكام والمحكومين.
و الخبز رمز يتخذ أشكالا مختلفة ويتضمن في نفس الوقت دلائل روحانية وجد مادية تكشف في آخر الأمر عن طبيعة العلاقة مع السلطات. وهو يشير أيضا إلى الحياة البسيطة وإلى التواضع. فبرفعهم لشعار “خبز وماء وبن علي لا”، أراد المحتجون رجالا ونساء في تونس التعبير عن رغبتهم في تنحية رئيسهم حتى وإن كلفهم ذلك الاكتفاء بالقدر المعيشي الأدنى. فالخبز هو ما يبقى لنا عندما لم نعد نملك شيئا، وهذه الفكرة هي التي أضفت كل القوة على صورة ذلك الرجل الذي يستهدف البوليس التونسي بخبزه (الباقات) على نحو من يستعمل سلاحا ناريا. لم يكن لديه شيئا آخر فواجه الشرطة بخبزه، قوة الصورة تكمن في تلك الحركة. أصبحت إذن حركة التلويح بالخبز إثباتا للإحساس بالفخر ، وهي حركة ظهرت في مناسبات عديدة عند التجمعات والاحتجاجات.
ثم إن الخبز كرمز للاحتجاج أصبح عنصرا استراتيجيا بحكم وظيفته الأولية في التغذية. ففي 2012 قام جيش النظام السوري باستهداف المخابز مباشرة، بهدف تجويع السكان. وكشف المتظاهرون تلك الفعلة للعيان بتسمية يوم الجمعة 28 ديسمبر”جمعة خبز الدم”. أما في لبنان، وفي أوج احتجاجات أوائل 2020، كانت مشكلة التموين بالدقيق رهانا، إذ أن فقدانه كان يمكن أن يدفع بالتعبئة نحو بُعد آخر. لكن هنا لم تكن التفجيرات هي سبب حرمان السكان من رغيف العيش، بل إفلاس الدولة والتضخم.
من خلال استحضار الخبز في الاحتجاجات يتم في الحقيقة طعن عدم قدرة الحكومات على حماية السكان بالحفاظ على الحد الأدنى من أسس الحياة البسيطة. في بلدان مثل مصر وتونس والأردن والسودان بالخصوص، عاشت منذ أواسط السبعينات ومازالت تعيش انتفاضات متعلقة بارتفاع أسعار المواد الأساسية، يعيدنا الخبز إلى مشكلة أعم هي عدم استقرار الأسعار. لأن تقلبات الأسعار تشوش الحياة المادية بأكملها، وعدم استقرار التركيبة الداخلية لميزانيات العائلات يفرض تعديلات مستمرة و إحساس بالريبة تجاه المستقبل. كما يحمل الخبز الالتباس الذي تتضمنه المسألة الاجتماعية، إذ أنها تبدو محددًة وغير شرعية أحيانًا، وثوريًة أحيانًا أخرى. حتى أنه كثيرا ما يُنعت الشعب بـ “حزب الخبز” (وهي عبارة استعملها متظاهرون في تونس خلال ثورة الخبز في جانفي/ يناير 1984).
أول من يتم توجيه إصبع الاتهام إليه في ما يتعلق بهذا الوضع هي الحكومات الوطنية، وعادة ما يخص الاتهام المستفيدين من التعديلات الليبرالية الذين جمعوا ثروات من جراء إصلاحات المرافق العمومية وتحرر الأسواق وتنقل رؤوس الأموال. فمنذ أواخر السبعينات وبداية الإصلاحات النيوليبرالية، ارتبطت مسألة الأسعار بمشكلة الفساد، ولم يكن المتظاهرون يتوجهون إلى المؤسسات المالية الدولية إلا نادرا، لأن تدخلها في السياسة الوطنية، مثل تدخل الممولين من دول أخرى، يعتبر نتيجة خرق من قبل الدولة الوطنية، و قد كان المحتجون يعتمدون في تحركاتهم على هذا الأساس.
خلال ثورات 2011، قليلا ما تم استحضار العلاقة مع “ثورات الخبز” في السبعينات والثمانينات بالرغم من أن الحافز لاندلاعها كانت إرادة الدفاع على ذلك الأساس الأدنى نفسها، مثلما كان الأمر بالنسبة لانتفاضة 1977 في مصر ضد التخفيض في دعم الدقيق، أو احتجاجات 1984 في تونس. فكأن الخبز في تحركات الثمانينات، كان يرمز إلى جوع الطبقات الأكثر خطرا. ولأن ثورات 2011 والتي تلتها اكتست بعدا يجمع مابين الطبقات وشكلت بالتالي وحدة شعبية، فهي تبدو مختلفة عن تلك التي عرفتها الثمانينات، والتي غالبا ما تنعت بالاضطرابات أو أعمال شغب. ذلك ما جعل بعض الملاحظين يتسرعون في القول أنها ثورات 2011 كانت ثورات ديمقراطية بحتة بعيدة كل البعد عن المطالبات الاجتماعية. لكنها مع ذلك تتضمن كلها بُعد الأزمة الاجتماعية. و ربما كانت الصلة الأكثر وضوحا بين مسألة الأسعار والانتفاضة هي تلك التي رأيناها في السودان في ديسمبر 2018، حيث قامت الاحتجاجات فعلا بسبب ارتفاع ثمن الخبز بثلاثة أضعاف في إطار “سياسة تقشف”. فمثلت هذه الاحتجاجات على الخبز إذن خطوة نحو تحدي النظام السياسي والاجتماعي. إذ أنه مع الخبز تأتي سلسلة كاملة من أوجه العجز الأخرى: المال في البنوك، والبنزين في محطات الوقود، والنقل العمومي، وأسعار كل المواد الأساسية و كذلك الأدوية، بحيث يصبح كل شيء خارج عن مقدور أكبر عدد من السكان.
خلال مظاهرات سنوات 2010، كان الخبز في الحقيقة حاضرا بصفة واضحة، وكان علامة على أن تلك الثورات لم تكن فقط ثورات من أجل الحرية والديمقراطية. فالسياسات النيوليبرالية وخاصة ارتفاع الأسعار بداية من 2008 كان لها تأثيرا مباشرا على المجتمعات، على أكثر الناس فقرا كما على تلك الطبقة المتوسطة والمحدودة.
الخبز هو إذن وجه مسألة اجتماعية لا يمكن التعبير عنها إلا إذا تم طرحها بطريقة أخرى: إن كل الحركات الاجتماعية تستهدف الفساد مباشرة لأنه من أسباب قلة الخبز بالنسبة لأكثر الناس احتياجا. ومن هذا المنظار لا يمكن إعتبار احتجاجات الخبز احتجاجات بسبب الجوع، بل هي طرق مختلفة تبرز طموح الشعوب إلى تقاسم الموارد بصفة أكثر إنصافا، و بالتالي يشمل هذا الطموح الخبز الذي يمكن أن نتقاسمه. و شعار “فساد=جوع” الذي كتب على رغيف الخبز المستدير والرقيق، يلخص هذا التحليل المعقد بكامل الوضوح،. في هذا الصدد، لا يمكن أن نعتبر الجوع على أنه كارثة بدون سبب، بل هو نتيجة منطقية لاضطراب سلطوي في المهام. إذ أنه يمكن غض الطرف على أشكال من السلطوية عند الدولة طالما بمهمتها في تسديد احتياجات أكبر عدد ممكن، أما إذا قل الخبز فيصبح ذلك كسر للميثاق من قبل تلك الدولة.
وإذا صارت الصراعات حول الأمن الغذائي تعتبر هي صراعات هيكلية في الشرق الأوسط ، فهذا بالتأكيد لأن هذه الصراعات تضم مسائل أوسع من مسألة الغذاء، وتراهن على إمكانية العيش معًا، وبالتالي على القضايا الديمقراطية الأساسية.
Leyla Dakhli (dir.), L’esprit de la révolte, Paris, Éditions du Seuil, 2020, p. 147-150.
ترجمت المقال من الفرنسية : سعيدة شرف الدين
بعد مسار طويل في الصحافة المكتوبة، اشتغلت عشر سنوات في مجال التعاون بين منظمة اليونسكو والدول العربية. ثم تحولت إلى تونس لتشرف على النشر في مؤسسة دار الجنوب للنشر. وتكرس اليوم جل وقتها لترجمة الكتب والدراسات السياسية والاجتماعية