المكنسة

وتنقية الشأن العام

الجزائر، مصر، لبنان، تونس واليمن 

La femme au balai. Alger, le 24 mai 2019 (14e vendredi). Photo : Khadidja Markemal.

بعد أن غادر حسني مبارك الحكم، كانت أكثر الصور انتشارًا في وسائل الإعلام التقليدية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي هي تلك التي تظهر المصريين وهم يكنسون وينظفون ميدان التحرير وبقية شوارع البلاد. حتى أن صحيفة ليبراسيون (الفرنسية) نشرت في 14 فبراير 2011 أحد مقالاتها تحت عنوان “ميدان التحرير، ثورة المكانس”. في تلك الساحة الشهيرة، وسط القاهرة، انشغل شباب بالتنظيف مستعينين بمكانس،  و دعوا  إلى ضرورة “البدء بتنظيف الشوارع قبل تنظيف النظام”.

لم تقتصر الحركة على القاهرة، ففي الإسكندرية مثلا، قام مئات من الشبان وحتى الكبار بكنس شارع الكورنيش، بينما انهمك آخرون في إعادة رسم علامات الأرصفة. في عالم ما قبل الثورة، كانت إعادة طلاء الأرصفة وأعمدة إنارة الشوارع تعني أن مبارك سيقوم بزيارة وشيكة، وها أن نفس العمل يَزِفّ   الآن مَرِحا خبر رحيله النهائي.

كان تنظيف الشوارع وكنسها موضع قدر كبير من السخرية من قبل أكثر المناضلين حنكة، إذ أن أغلب الأشخاص الذين هبوا للقيام بذلك العمل ينتمون في الحقيقة للطبقات العليا، ومنهم من لم يشارك أحيانا في التحركات الاحتجاجية التي استمرت 18 يومًا. لكن نكران ميزة هذا العمل برمته يكون بمثابة إسقاط لفائدته الرئيسية، لأن الأفراد الذين لا يملكوا خبرة المناضلين المحنكين، وأولئك الذين لم يتعودوا على التنظيمات السياسية الجماعية ولم يطلعوا على قواعد التحرك السياسي بعد اندلاع ثورة، يضعوا الأعمال الرمزية الصغيرة في  سجل تحركاتهم. فالشحنة العاطفية التي ترافق الأحداث الثورية تجعل من حسن النية محورا لها. فتكون لحظات الانتصار الأولى آهلة بأعمال شاعرية صادقة، يتم عرضها وإعادة عرضها، لأنها تقلل من الاختلافات وتبرز رؤية مثالية للعيش معًا. وفي هذا السياق يكتسي الاستيلاء على الفضاء العام من خلال تنظيفه معناه الكامل، ويصبح عملا سياسيا رمزيا لا يكلف الكثير.

على عكس مصر حيث ظهر موضوع “التنظيف” مباشرة بعد رحيل مبارك وكان مرتبطا بنهاية احتلال طويل للأماكن العامة، في تونس أو في اليمن اكتست هذه الظاهرة كل معناها طوال تواجد المحتجين في تلك الأماكن.

في تونس، اعتصامات القصبة 1 و 2 هي التي كشفت عن عمليات تنظيف مناطق الاحتجاجات، حيث كان المتظاهرون يستيقظون في الصباح الباكر، ويوقظ الأوائل منهم بكل حزم من لا يزال نائما في الخيام أو على حشايا في الهواء الطلق، و رغم أن وقت ترديد الشعارات والتحدث عن السياسة واستئناف التعبئة الجماعية لم يحن، يفيق الجميع وينشغلوا بإزالة الأوساخ عن الساحة. يتقاسم المتظاهرون، وأغلبهم رجال، هذا العمل، فيجلبوا مكانس وأكياس كبيرة من البلاستيك يجمعون فيها النفايات بعد فرزها ثم يشطفون الساحة، وهم يتجاذبون أطراف الحديث في ما بينهم، و مع المارة والصحافيين ومن دفعه حب الإطلاع إلى هناك. و كلما تحدث المحتجون إلى المارّة، أعطوهم انطباعا عن أنفسهم يفند  تلك الصورة “القذرة” التي يروج لها خصومهم في السياسة.   

هكذا أصبح تنظيف الساحة جزءًا من روتين احتلالها، واكتسى مع ذلك، معان مختلفة. فبالإضافة إلى الحفاظ على نظافة فضاء الاحتجاج وعلى ظروف الحياة المادية في الميدان، انخرط ذلك  العمل أيضا في جملة الترتيبات السياسية والرمزية، حيث كان بالنسبة لأولئك المتظاهرين القادمين من المناطق المحرومة في البلاد، بمثابة إستراتيجية تكذب وصما تم استعماله ضدهم  من جملة ما تعرضوا إليه من انتقادات من قبل أنصار الغنوشي [محمد] بسبب مناهضتهم لحكومته. وقد واجه المعتصمون بالفعل أعمال عنف تهدف إلى الحط  من شرعية وجودهم بالساحة وتتهمهم بتخريبها. كان إنذارهم بضرورة مغادرة المكان يتكرر باستمرار، مُدعّما بأنهم يريدون الانتقام والمغامرة مع نعتهم بالوسخ والقذارة، واستعمال شعار” ارجعوا من حيث أتيتم” طوال تلك الهجمات المتتالية. في هذا السياق، كان لعمليات تنظيف فضاء الاحتجاج بعدًا سياسيًا ورمزيًا هامًا، ساعد في إضفاء شرعية على احتلال الساحة و كسر مصداقية المعسكر المضاد.

في صنعاء، تطورت عمليات التنظيف الجماعي في إطار اللجان التي تم إنشاؤها في ساحة التغيير، إلى درجة أن جماعات منها أصبحت تذهب حتى أماكن الاشتباكات لتنظفها. في ديسمبر 2011، قام أعضاء  إحدى اللجان بتنظيم “عملية نظافة” باتجاه مفترق طرق “كنتاكي” أين تمت مهاجمة المتظاهرين من قبل مليشيات النظام. وكانت عملية محو الآثار هذه تتزامن مع العمليات النضالية، حيث أدرجت النظافة شبه اليومية في تأطير الثورة.

و قد حملت حركات 2019 من بدايتها نفس هذا الموروث، فظهرت في الجزائر ممارسة التنظيف منذ التجمع الأول في 22 فبراير 2019 حيث قام رجال، في نهاية المسيرة، بجمع النفايات وزجاجات الماء الفارغة الملقية على الطريق في أكياس زبالة كبيرة أحضرت لهذا الغرض. وعلى منوال الانتفاضة نفسها، كان لهذا الاهتمام بالفضاء العام وقع إيجابي على السكان الذين شجعهم الإحساس بديناميكية رد الاعتبار الجماعي، على جعله من مميزات التعبئة. ومع ذلك فمثل الاهتمام بالأماكن العامة ليس جديدا في حد ذاته ، إذ ظهرت منذ عدة سنوات، عمليات لمواجهة سوء إدارة جمع القمامة، تتمثل في  شطف الشواطئ والغابات من قبل مجموعات من الشباب كانوا يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي لنشر صور نشاطاتهم بهدف توعية السكان لضرورة العمل من أجل بيئة نظيفة ومحمية.

وقام صحفيون ومحللون ومثقفون وناشطون، من النساء والرجال، بإبراز عملية تنظيف الشوارع على نطاق واسع، حتى أصبحت، مثلها مثل إنشاء منظومة من المتطوعين تصطحب المسيرات للقيام بالإسعافات الأولية، مقترنة بشعار “الحضارية” الذي تم فرضه هو الآخر إلى جانب شعار “السلمية”. ثم تواصل في الجزائر العاصمة، تحسين هذه الممارسة من يوم جمعة إلى الذي يتلوه، فصارت أكياس القمامة الكبيرة تُعلق منذ الصباح على الأشجار على حافتي الطريق، وتوضع تحتها زجاجات من الماء على ذمة السكان مجانا. بالإضافة إلى أنه دليل على حسن سير المظاهرات، كان هذا الاهتمام بالبيئة يعكس أيضًا علاقة جديدة مع الفضاء العام الذي أصبح “شأنا مشتركًا” على الأقل خلال فترة المسيرات. ولمحاكاة هذه الممارسات الجيّدة، حث منظمو مسيرات الدعم بساحة الريبيبليك (place de la République)، في باريس، المتظاهرين على إتباع سلوك المواطنين في الجزائر، ومروا بين الحشود لجمع النفايات وتوزيع مواد للتنظيف ( أكياس وقفازات).

وكانت هذه الأبعاد السياسية والبراغماتية لـ “عملية التنظيف” في الوضع الثوري مرفقة بمظهر أخر أكثر رمزية، وهو أنها كانت في الواقع تهدف أيضًا إلى أن تصبح حافزًا لشطف الحكام و “النظام” بمُجمله. فظهرت بداية من شهر مارس، لافتات صُوّر عليها حاويات نفايات أو أكياس قمامة كبيرة تحتوي على وجوه أهم السياسيين وأعضاء الحكومة، من بينهم رئيس الوزراء آنذاك، أحمد أويحيى، وكتب عليها عبارة “تنظيف شامل، غير قابل لإعادة الاستخدام”. وسار متظاهرون آخرون يحمل كل منهم مكنسة إشارة إلى الضرورة المُلِحّة لتطهير كل من المنظومة السياسية وممثليها. في يوم الجمعة الخامس، أضاف أحد المتظاهرين إلى المكنسة عبارة ” أخرجوا، سنلقي بماء الجافال”. وفي الحادي عشر من أبريل/نيسان 2019، أثناء التجمع ضد تعيين عبد القادر بن صالح رئيسا جديدا بالإنابة، رأينا امرأة مسنة، ملتحفة بحائكها الأبيض التقليدي، مطوقة عنقها بالعلم الوطني، تمسك بمكنسة من مقبضها الخشبي الطويل وتلوح بها أمام مدرعة للشرطة، إلى أن قام بعض الرجال بإبعادها حماية لها. وقد عرفت منذ ذلك الحين  بـ”إمرة المكنسة”  وأصبحت وجها رمزيا للحراك، يكن لها الجميع الاحترام لأجل شجاعتها وعزمها.

سرعان ما شوهدت نفس الممارسة في مظاهرات 2019 في لبنان، كصدى لممارسات تراكمية عاشتها الثورات العربية، وفي نفس الوقت كاستعادة لتعبئة سابقة ضد إهمال الحكومة. نذكر أن لبنان، و مدينة بيروت بالخصوص، كانت قد غمرتها النفايات المنزلية بعدما تم إغلاق أكبر مَطمر في البلاد خلال صائفة 2015. و خلفت أزمة النفايات هذه، التي كشفت شيئا فشيئا عن مدى الفضائح  المتعلقة بإدارة مسألة القمامة، تحركات احتجاجية أخذت بسرعة منحى سياسي جذري، جمع المتظاهرين وراء شعار “طلعت ريحتكم”، الموجه إلى السياسيين بجميع اتجاهاتهم. و رغم أن بضع سنوات تفرق بين تلك المظاهرات و حركات خريف 2019، بقيت أزمة النفايات تمثل لحظة حاسمة في توجيه الاتهام إلى دولة مختلة ينخرها الفساد. ثم وضعت الدولة على المحك من جديد في أكتوبر 2019 بينما كانت تحاول مواراة إهمالها بإقرار ضريبة غير شرعية على وسائل الاتصال، دون أن تلتزم أبدًا بالعناية بالبنية التحتية أو الظروف المعيشية للمواطنين. في مخيمات أكتوبر الاحتجاجية كان المناضلون يقومون بأنفسهم بجمع النفايات وفرزها.  ثم سرعان ما أخذت الحركة برمتها بعدًا إيكولوجيًا قويًا، يحتوى على مطالب تتعلق أيضًا بالحفاظ على الطبيعة وخاصة الغابات، التي أتت عليها حرائق هائلة قبل أيام قليلة، وكانت الحكومة غير قادرة على إطفائها. عندها تركز قسط كبير من السخط الشعبي حول مسألة المرافق العامة والبيئة، واستهدف المؤسسات الوطنية لإدارة المياه والكهرباء، وكذلك البنوك والسياسيين الذين تم اعتبارهم مسؤولين في نفس الوقت عن الإهمال وعن كارثة مديونية البلاد. 


Leyla Dakhli (dir.), L’esprit de la révolte, Paris, Éditions du Seuil, 2020, p. 85-89.

ترجمت المقال من الفرنسية :  سعيدة شرف الدين 
بعد مسار طويل في الصحافة المكتوبة، اشتغلت عشر سنوات في مجال التعاون بين منظمة اليونسكو والدول العربية. ثم تحولت إلى تونس لتشرف على النشر في مؤسسة دار الجنوب للنشر. وتكرس اليوم جل وقتها لترجمة الكتب والدراسات السياسية والاجتماعية

Search OpenEdition Search

You will be redirected to OpenEdition Search